أمة الرزاق جحاف
زينب الشهارية هذا الاسم الذي تسلل إلى تفكيري منذ أن كنت طالبة في الجامعة، كان ذلك بصدفة محضة، من حديث عابر عن النساء اليمنيات اللواتي كان لهن نصيب وافر من العلم والمعرفة، مكنتهن من أن يسهمن بشكل مباشر أو غير مباشر في الحياة الثقافية والعلمية، في تاريخ اليمن الإسلامي.
لكني ما لبثت في خضم انشغالاتي أن نسيت الاسم، ليس لعدم أهميته ولكن لأني كنت أرجئه لوقت فراغ كفضول شخصي تجاه صاحبته، لأني كنت أريد أن أعرف من هي هذه المرأة التي جعلت المؤرخين يتداولون اسمها حتى ذاع صيتها ووصل إلينا،
وفي نفس الوقت لأني لم أتوقع أن تكون شخصيتها بهذا الثراء الانساني وهي معاصرة لتلك الفترة التي ساد فيها حكم الأئمة الذين قرأت – في كل مناهج التعليم الدراسية والجامعية – أنهم كانوا يحاربون التعلم وتحديدا تعليم الفتاة، وأن مجرد ذكر اسمها كان عورة بالنسبة لهم.
لكن ما جعلني أعود إلى اسم زينب الشهارية – حاليا – هو مواقف الصمود والتحدي والثبات للمرأة اليمنية الذي ظهرت به في مواجهة العدوان السعوصهيوأمريكي الذي تشنه دول الاستكبار العالمي على بلادنا منذ ما يقارب العامين.
لقد أذهلني هذا الموقف في البداية كما ـ أذهل كل العالم – خاصة وهم يشاهدونها تودع أبنائها إلى جبهات القتال بالدعاء، وتستقبل جثامين الشهداء بالزغاريد وإطلاق الرصاص،وتجهيز قوافل المدد للمجاهدين في جبهات القتال بالتبرع بحليها ومالها، وتخرج في المسيرات والمظاهرات في مجاميع غفيرة.
وهذا الموقف الجهادي جعلني أحاول أن أبحث عن المرجعية التاريخية التي تنطلق منها المرأة اليمنية في مواجهة العدوان، والتي تجلى فيها بوضوح العقل اللاوعي أو ما يسمى بالذاكرة الجمعية أو العقل الجمعي للشعب والذي تنتقل تأثيراته عبر الجينات المتوارثة من جيل إلى جيل.
ومن جديد بدأت تتسلل إلى عقلي أسماء الكثير والكثير من النساء الأديبات والعالمات والفقيهات اللواتي يثبتن أن المرأة لم تكن في ذلك التاريخ المتقدم، مجرد ربة بيت تقوم فقط بالأعمال المنزلية، وإنما كان لها دور كبير واسهامات عظيمة في الحياة الفكرية والأدبية والسياسية في اليمن، وهو ما قد أتناوله لاحقا في الأعداد القادمة.
وكان من المنطقي أن أبدأ بحثي بزينب الشهارية.
ولدت الشاعرة الأديبة ، زينب بنت محمد بن أحمد بن الحسن بن علي بن داوود في مدينة ( شهارة ) من منطقة (الأهنوم ) شمال صنعاء وتوفيت سنة 1114هـ وعرفت بزينب الشهارية نسبة الى شهارة مسقط رأسها.
وقد أورد المؤرخ محمد زبارة في كتابه نشر العرف نسبها وهو أحد الثلاثة الذي ترجموا لها فقال[الشريفة العالمة الكاملة الفاضلة الأديبة الأريبة العفيفة زينب بنت السيد الشهير محمد بن أحمد بن الإمام الناصر الحسن بن علي بن داوود بن الإمام عز الدين بن الحسن بن الإمام الهادي بن علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن يحىى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبدالله بن محمد بن القاسم المختار بن أحمد الناصر بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن أبن علي بن أبي طالب-اليمنية الشهارية ]ومن نسبها ندرك أنها زهرة في الشجرة الباسقة شجرة العلم والمجد والأدب.
أما عن نسبها من ناحية أمها أسماء بنت المؤيد محمد بن القاسم فغني عن التعريف، فجدها لأمها المؤيد بن القاسم، بلغت مؤلفاته أحد عشر مؤلفا، ووالده القاسم مؤلفاته تزيد على الأربعين في شتى العلوم، وتعتبرمن أهم المراجع في الفقه عند الزيدية.
ولذلك ومن الوهلة الأولى لا يسع الباحث إلا أن يتوقف عند اسمها، يكتشف أنها شخصية متميزة جدا، تجمع بين القوة والضعف، الحنان والقسوة، الكبرياء والتواضع، وأنها تستحق أن يتفرغ الباحثون لدراستها وتحليل شخصيتها المعقدة في تركيبها وأنماطها السلوكية، والتي تقدم لنا اضاءات عن عصرها ومكانة المرأة فيه.
ولكي نتعرف على العوامل التي أسهمت في تشكيل شخصيتها، وأدت إلى تتنوع اهتماماتها بذلك الشكل الذي جعلها مؤثرة في محيطها ومتأثرة به ،سواء في حياتها الخاصة أو العامة، لابد لنا أن نطل على الوضع العام لليمن في تلك الفترة التي شهدت مولدها، وهي نهاية القرن العاشر الهجري حيث كان اليمن في نهاية هذا القرن خاضع لسيطرة الأتراك، بعد أن انتهت المقاومة الشرسة التي واجهوها من اليمنين – تحت زعامة آل شرف الدين- بالقبض على الامام الحسن بن علي ونفيه الى الاستانة مع بعض أولاد الامام المطهربن شرف الدين، لكن سيطرة الأتراك على اليمن لم تستمر طويلا إذ استمر الشعب في مقاومتهم، حتى تمكن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم (جد السيدة زينب لأمها ) من إجلائهم عن اليمن للمرة الثانية سنة (1045هـ الموافق 1635م) ويعد هذا الإمام بعد أبيه مؤسس الدولة القاسمية، التي بلغت أوج إزدهارها ونفوذها في عهد خلفه المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم موحد اليمن – الذي حكم من عام (1054هـ-1087هـ) (1644-1676م) – الذي امتد نفوذه إلى لحج وعدن وحضرموت .
وفي هذا العصر الذي كان يموج بالثورات ضد المستعمر الأجنبي، وفي بيت كان صاحبه يتزعم قيادة الثورة والمقاومة للاحتلال العثماني، ولدت السيدة زينب ونشأت في حضن والدتها السيدة أسماء بنت المؤيد محمد بن القاسم ،الذي استقر في شهارة وحكم اليمن منها.
وحضيت بعناية واهتمام جدها المؤيد إمام اليمن، وذلك لانشغال والدها محمد بن أحمد بن الحسن بمهامات عسكرية ،أجبرته على الاستقرار في (العدين)، ورغم غيابه عنها وعدم استقراره إلا أنه كان له الأثر الكبير في نشأتها على حب الأدب والشعر باعتباره من الشعراء المرموقين وله الكثير من القصائد المشهورة، إضافة إلى أنه كان أديبا معروفاً وعالما مجتهداً.
ولهذه البيئة الأدبية والعلمية والسياسية التي نشأت فيها الفتاة ،إضافة إلى عصرها الذي كان معروفا بكثرة أدباءه وعلمائه‘ أثر كبير على تكوين شخصيتها فأصبحت كما تذكر التراجم عالمة، كاملة، فاضلة، شاعرة متصوفة و أديبة بارعة .
وتعد زينب الشهارية من شهيرات النساء في اليمن حيث ذاع صيتها في الأفاق واحتلت بينهن المكانة الأولى في الشعر والأدب، على الرغم من أن معاصريها لم يتهموا بجمع أعمالها الشعرية والأدبية فضاع معظم شعرها الفصيح وكذلك شعرها الحميني ،عدا موشحا واحدا،وضاعت كذلك مكاتباتها الأدبية ولم يبق من أعمالها الأدبية إلا ماخلده ثلاثة من مترجميها وبعض القصائد المتناثرة هنا وهناك.
ويعد العلامة محمد زبارة أفضل من ترجم لها من المؤرخين في كتابه (نشر العرف) حيث ترجم لها ترجمة مطولة، وإليه يعود الفضل في جمع أغلب أشعارها أما ما تبقى منه وهو كثير فإن أحداً لم يعتن به ممن عاصرها ، فلم تجمع قصائدها في ديوان وظلت مبعثرةً، وكل ماوصل إلينا منه ليس إلا مجرد نماذج أوردتها التراجم ، ذلك لأن تراث الأدب النسائي تعرض في العصور اللاحقة للإهمال والتجاهل ، حتى غيب النسيان معظم الشاعرات ،وضاع إنتاجهن إلا من كان دورها أعظم من أن يطمس نهائيا مثل شعر أديبتنا الذي تبقى منه شذرات قليلة. تكفي أن تدلل على المكانة الرفيعة التي بلغتها في الشعر والأدب مع ما نلمسه فيه من العفة والأدب وسكينة في النقاش والحديث فساجلت العديد من أدباء عصرها وكانت فيما يقول الحبشي في كتابه (دراسات في التراث اليمني) ذات شهرة واسعة وعلى مقدرة أدبية كاملة، وقد تصدى لترجمتها معظم مؤلفي القرن الحادي عشر من أهل اليمن.
وفي دراسة قيمة ، قدمها الباحث والمحقق الأستاذ عبد السلام الوجيه، بعنوان أعلام من نساء اليمن – وهي المرجع الوحيد الذي اعتمدت عليه في هذه البحث المقتضب – ذكر أنها تلقت علومها في شهارة مسقط رأسها، والتي كانت عاصمة المؤيد أنذاك حيث أكابر العلماء والأدباء في عصرها، فقرأت النحو والمنطق والأصول واهتمت بعلم النجوم والرمل والسيمياء مع معرفة تامة في علم الأصول وعلم المعقول والمنقول.
وذكر الوجيه أنها كانت أيضا تقوم بالتدريس لغيرها، وأخذ عنها بعض العلماء وهذا يدل على المكانة التي وصلت اليها، مقدمة لنا شاهدا حيا على أن المجتمع اليمني يعد من أكثر المجتمعات تقبلاً للمرأة متى ما استطاعت أن تمتلك من المعارف العلمية والثقافية ما يؤهلها لأن تنخرط ضمن فئاته وشرائحة المتعلمة والمثقفة عالمة ومتعلمة.
ومن الواضح أن ما امتلكته هذه السيدة من العلوم والمعارف المتنوعة قد عكس نفسه على حياتها سواء من حيث بناء شخصيتها على ذلك النحو الذي ذكرناها أو من حيث امتلاكها للقدرة الكاملة في التعبير عن مشاعرها العاطفية منها أو الوطنية و السياسية. ولعل الأبيات الثلاثة التي كتبتها مفاخرة بموطنها الأول، تدل على مدى تمكنها من اللغة العربية وقدرتها الفذة على تطويع مفرداتها لتعبر عن مشاعرالإنتماء والاعتزازبشهارة من خلال المقارنة بينها وبين مدينة ليست كبقية المدن مدينة صنعاء التي يتغزل بها الأدباء والشعراء على مر العصور، فإذابها تسخر من ذوقهم واعجابهم وتكتب قائلة:
يامن يفضل صنعاء غير محتشم على شهارة ذات الفضل عن كمل
شهارة الرأس لاشيء يماثلها في الإرتفاع وصنعا الرجل في السفل
أليس صنعاء تحت الظهر مع ضلع أما شهارة فوق النحر والمقل
وفي هذه الأبيات الموجزة التي تختصر علاقة الإنسان بالأرض، يتضح مدى قدرة الشاعرة الأدبية وبلاغتها من خلال التشبيه وقوة التورية فيها، وفي نفس الوقت تؤكد أيضا على حب الشاعرة لمدينتها، ليس لأنها فقط مسقط رأسها ووطنها الأول، ولكن لأنها بالفعل مدينة جديرة بأن تفخر بها لأنها ذات الفضل الأكمل لمجدها وتأريخها العريق ،فهي تمثل الرأس بتعبير معنوي لمكانتها ومجدها العريق، وهي تمثل الحصن بتعبير رمزي مادي لموقعها الجغرافي الحصين.
وهي لعمري قد تفوقت على ذلك الشاعر العربي الذي قال معبراً عن تعلقه بموطنه الأول:
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبدأ لأول منزل
ومع أنني في هذه الدراسة المتواضعة لست بصدد الترجمة للشاعرة ولا بصدد الكتابة حول حياتها الشخصية ، إلا أنه لابد لي من الإشارة ولو بشكل موجز، إلى أن هذه المرأة الأديبة والشاعرة ذات اللغة الرقيقة والمشاعر الفياضة ، لم تكن موفقة في حياتها الاجتماعية، حيث تزوجت ثلاث مرات، لم توفق في أي واحدة منها وانتهى بها الأمر في نهاية حياتها إلى التصوف والزهد في الحياة، والانصراف عن مباهجها، بعد أن انكسر قلبها منذ أول زواج لها من الأمير الشاب الشهير علي بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، وهو ابن عم أمها وأشهر أولاد أبيه المتوكل على الله إسماعيل ، فسارع إلى طلبها للزواج في أوج إزدهار دولة أبيه موحد اليمن الكبرى، وتزوجها فتلعق به قلبها وهامت في غرامه… لكنه هيام أميرة ذات كبرياء مع غيرة شديدة، فلم تقبل أن يشاركها في قلبه أحد، وفي نفس الوقت لم تكن تستطيع الابتعاد عنه ، فسادت حياتهما المشاكل، واستمرت ما بين مد وجزر، فكلما ابتعد عنها ركضت خلفه متوددة مستعطفة ،بأعذب القصائد فإذا ما رق قلبه ولان عاتبته بقسوة .
ويقول الأستاذ عبد السلام الوجيه مفسرا ذلك أن الأمير الزوج ربما أخذ عليها عجبها بنفسها وماوصلت إليه من علم وأدب ومعرفة، وأن هذا الإحساس ربما قادها إلى التيه أحياناً ، كمحاولة لأن تكون نداً للأمير، لازوجة طائعة مستسلمة، كغيرها من النساء ويظهر هذا التيه والإعجاب بالنفس في شعرها الموجه للأمير الزوج ، مستنكرة ميله إلى غيرها من النساء وتفضيلهن أو على الأقل مساواتها بهن، وهن كما ترى (البغاث)و(الظلام)و(الثرى) بينما ترى نفسها (الباز) و(الضياء)و(الثرياء) ، كما هو واضح من هذه الأبيات التي كتبتها عن سبب غضبها منه:
يساوي بالبغاث الباز ظلماً ولم يدر الظلام من الضياء
فيامن قاسني بالضد مهلاً لقد قست الثرياء بالثراء
لكنها إذا ما أحست بطول بعده وهجره لها ، تعود لإستعطافه بأبلغ الرسائل وأرق الأشعار لعلها تستميله ليجود بزيارة ووصل بعد طول جفاء وهجران.
ومثال ذلك ما أشارت الشاعرة إليه ارتجالا، حين كان غاضبا منها ، فبعثت إليه بقصيدة استعطاف رقيقة جاء فيها :
ان الكرام اذا ما استعطفوا عطفوا والحر يغضي ويهفو وهو معترف
فأثرت فيه تلك الأبيات وقام بزيارتها ونزل عليها في دارها بمدينة إب بعد أن أمالته ببلاغتها إلى هذه الزيارة لكنه ما لبث أن غادرها غاضبا وذلك كما روى زبارة كما ذكر الأستاذ عبد السلام الوجيه أن الأمير بعد مكوثه عندها بعض أيام هاج به الشوق إلى وادي النخيل وجهات زبيد حيث تنزل نساؤه الأخريات فطلب منها أن تأخذ الدواة والقلم وتنظم ماتراه معبراً عما في نفسه من شعرها – لأنها كانت بديهة الخاطر وذات موهبة طاغية الحضور- فعبرت عما يدور بخلده في ثنايا قصيدة أنشأتها ارتجالا حسب رواية زبارة ومطلعها
أشجاك من جانب الغور ابتسامات ومن ترنم ذات الطوق رنات
حتى غدا حاجم الأشواق ملتهبا وصار للدمع في الخد انسجامات
ذكرت جيرة جيرون وطيب هوى وادي النخيل وهاتيك اللييلات
أيام شملك بالأحباب مجتمع وقد صفت لك بالبستان أوقات
وفي موقف أخر كتبت اليه معاتبة تقول [صدرت من محب حظي بنهلة وصل جعلت الأكباد عطاشا،وسالف أنس أخلف إيحاشا، يشكو من دهر أوسع أيام عقوقه طولاً،وأيام بره قصراً،وصفو وداد غاله وشابه كدراً،وكأس وفاء أخذه بلوراً وأعاده مدراً،وأدراه بالوصل خمراًوبالفراق مراً،فلما كاد أن يحمد باسترجاع ماشرد اقترف المملوك ذنباً أقصاه فاعقبه الندم،وثاب إليه العقل بعد أن زلت القدم]إلى آخرالرسالة التي تكشف جانباً مهماً من تكوين هذه الشخصية المتناقضة بين شد وجذب، فهاهي تعترف بذنب اقترفته في حقه، ربما كان تمرداً على طاعة الأمير الزوج، ثم تعلن الندم والخضوع وتعاود استعطافه بأبلغ وأرق العبارات.
وهكذا بقيت حالتها مع هذا الزوج – الذي كلفت به أشد الكلف- في شد وجذب هو يهم بطلاقها وهي تعود مستعطفة فيرق لها ويعود إليها فقد ذكر زبارة [أن الأميرعلي بن إسماعيل قد هم بمفارقتها فكتب إليها قصيدة أولها:
لاأنتم مني ولا أنا منكم قد كنت أعتقد الوفاء وكنتم
لاتسألو الورقاء عني إن شدت سحراً فأني لست أسأل عنكم
فأجابت عليه بقصيدة رقيقة مطلعها:
كونوا كما شئتم فأنتم أنتم مني الوفاء وفيتم أم خنتم
العبد عبدكم مطيع سامع ولئن عدلتم لست أعدل عنكم
وكانت النتيجة المنطقية لحياة مليئة بالمشاعر المتناقضة أن تؤول العشرة بينهما إلى طلاق وانفصال، لأن شريف نسبها ومكانتها في الشعروالأدب وما حازته من الثقافة والعلوم والمعارف المختلفة ، جعل منها شخصية تختلف عن عامة النساء.
وأكتفي بالحديث عن حياتها الشخصية مع زواجها الأول، بالقدر الذي يوضح شخصيتها بما فيها من شموخ المرأة المعتزة بنفسها ومكانتها، والشاعرة ذات القصائد الرقيقة واللغة الشفافة والنفس الشعري المتميز وامتلاك قاموس ثري بالمفردات الغنية في مدلولاتها والقدرة على التعبير عن المشاعر، في أقوى دلالاتها وبين المرأة والعاشقة المتذللة والمحبة الغيورة.
لأن ما يهمني كما نوهت في البداية، هو الكتابة عن الجانب الذي تمحورت حوله هذه الدراسة الموجزة ، هو زينب المرأة اليمنية ذات التأثير السياسي، والتي جعلت أحدهم يتوصل إلى قناعة بأنها كانت تشارك في إدارة شؤون الحكم من صعده، ويعد هذا من وجهة نظري أمراً طبيعيا ومنسجما مع مكونات شخصيتها، خصوصا وقد نشأت في بيت الحكم والسياسة، فجد أمها الذي نشأت بين أحضانه كما ذكرت هو مؤسس الدولة القاسمية، وجدها لأمها خليفته من بعده ووالد زوجها الأول المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم موحد اليمن الكبرى، ووالدها كان رجل المهمات والقائد الشجاع في عهد المؤيد إضافة إلى أن كل أزواجها الثلاثة الذين ارتبطت بهم كانوا قادة وأمراء وحاكمين مؤثرين، كما كان جميع أقاربها أمراء وقادة وعلماء وسياسيون، ومن ثم يصبح من الطبيعي أن تكون زينب ذات شخصية مؤثرة على بعض مجريات الأمور السياسية في اليمن خصوصا في عهد زوجها الثاني وطرفا من عهد والد زوجها الأول.
ويكفي أن ندلل بحكايتين نستدل بهما على رجاحة عقلها وحنكتها السياسية وبعد نظرها:
الحكاية الأولى: من خلال تعاملها مع هذه الأزمة السياسية التي حدثت سنة 1082هـ حيث قامت السلطات في مكة بمنع الحجاج اليمنين عن الوصول إلى مكة التي لم يكن يفصلهم عنها سوى ثمان ساعات
وبالطبع كانت ردت الفعل الغاضبة من الناس بديهية تجاه هذا التعامل المستفز والذي عبر عنها بعض الشعراء ومنهم إبراهيم الهندي الذي كتب قصيدة مطولة ذاع صيتها إلى عمها المتوكل على الله إسماعيل والد زوجها يستحثه فيها على تجهيز الجيوش إلى مكة يقول في مطلعها
أظلما عن البيت الحرام نذاد على مثلها الخيل العتاق تقاد
وعلى نفس المنوال كتب زوج الشاعرة الأمير علي بن إسماعيل إلى والده المتوكل قصيدة حماسية يستنهضه فيها لفتح مكه مطلعها:
لعمرك ليس يدرك بالتواني ولابالعجز غايات الأماني
فما نيل المعالي قط إلا ببيض الهند والسمر اللدان
وحزم دونه الشم الرواسي وعزم لم يكن أبداً بوان
لكن السيدة زينب كان لها وجهة نظر أخرى تدل على حكمة وبعد نظر، فكتبت قصيدة على وزن قصيدته المذكورة سخرت فيها من مشورته لوالده ومطلعها:
عصاتك والقدح إن كنت باني لغزو الروم من بئر العياني وموم
ومن المؤسف أن الأمير الزوج لم يتقبل معارضة زوجته لرأيه، خاصة وأن والده كان له نفس رأيها في عدم التجهيز فكانت هذه القصيدة سببا في طلاقها منه.
أما الحكاية الثانية: فتدل على مدى إلمامها بالعلوم والأصول من خلال تثبيتها لشروط استحقاق الخلافة لخالها القاسم بن المؤيد بن القاسم الذي ادعى الإمامه بعد وفاة المتوكل سنة 1087هـ وإستند في استحقاقه للخلافة ببيتين من شعر زينب حيث كانت شروط الإمامه الأربعة عشر وفقا للمذهب الزيدي متوفرة فيه أكثر من معارضه ومنافسه المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم الذي تفوق عليه بقوة جيشه وشدة بأسه.
وكانت زينب في هذا الخلاف السياسي تقف في صف خالها الذي رأت أنه أجدر بالخلافة، وحاولت تثبيت استحقاقه الإمامة في بيتين من الشعركان لهما صداهما في وقتها كشعار(لحملته الانتخابية) لأنها بإدراك المحنك السياسي بحثت عن نقاط الضعف في شخصية منافسه وأبرزتها فلامست وتراً حساساً يتصل بماضي المهدي وهي ما يسمى في عصرنا بالحرب الإعلامية التي تبحث عن نقاط الضعف في المنافس والتعريض به فقالت مدحا لخالها وتعريضا بمنافسه المهدي:
إن الخلافة زينت أكليلها للقاسم ابن محمد بن القاسم
لا للذي جعل الجواري همه وشقى بحرب إمامه من قادم
ووقد أحدث البيتان ضجة تدل على أن الشاعرة كان لها تأثيرها السياسي وثقلها الاجتماعي، بدليل ما أثارته مواقفها السياسية الداعمة للمتوكل وتأثيرها في دعمه إيجابا بين الكثير من علماء وأدباء وقادة عصرها.
وإلى جانب مافي البيتين من البلاغة فإنهما يعكسان أيضا سمو أخلاقها وترفع نفسها من خلال فهمها للصفات التي يجب أن يتحلى بها الإمام الحاكم، وفي مقدمتها العفة والوفاء بالعهد لأن المهدي رحمه الله كان قد خرج على المؤيد بن المنصور وهو ما استغلته الشاعرة في حملتها ضده.
ولأن السيدة زينب بطبيعة الحال زيدية المذهب، وجل مواقفها كانت تعبر عن هذه الثقافة التي لا تخرج عن نطاق الإيمان بمبادئ الزيدية ونظريتها العامة في الساسية والحكم، وهي النظرة التي تزخر بها كتب الفقه وعلم الكلام لفطاحلة علماء المذهب الزيدي.
اترك تعليقاً